سلّطت تقاريرُ إعلاميةٌ الضوءَ على قضيةِ وصولِ مئاتِ الفلسطينيين من غزة إلى جنوبِ إفريقيا على متنِ رحلاتٍ غامضة، لتشيرَ الأدلةُ إلى أن شركةً إسرائيليةً تقفُ وراء العملية بالتنسيقِ المباشر مع السلطاتِ الإسرائيلية، فيما اعتبرت بريتوريا ذلك جزءًا من مخططٍ ممنهجٍ للتطهيرِ العرقي.
وكشفت صحيفةُ "يديعوت أحرونوت" العبرية أن شركةَ تحمل اسم "المجد"، المنظمة للرحلات، هي في الواقع تابعةٌ لمجموعةِ "تالنت جلوبس"، التي أسسها الإسرائيليُّ تومر يانار لِند.
وأشارت الصحيفةُ، نقلًا عن تقريرٍ لـ"هآرتس"، إلى أن "لند"، الذي يحملُ الجنسيتين الإسرائيليةَ والإستونية، أسس شركةً أخرى متخصصةً في الاستشارات يبدو أن مقرَّها في إحدى الدولِ العربية.
والأهم من ذلك، كشفت "يديعوت أحرونوت" أن شركةَ "المجد" تواصلت مباشرةً مع مديرةِ شؤونِ الهجرة في وزارةِ الأمنِ الإسرائيلية التي أنشأها الوزيرُ إيتمار بن جفير، وسلّمتها بياناتِ الـ153 فلسطينيًا الذين كانوا على متن إحدى الرحلات لنقلِها إلى وحدةِ تنسيقِ أعمالِ الحكومةِ في المناطق.
من جهتها، كشفت صحيفةُ "نيويورك تايمز" الأمريكية أن شركةَ "المجد أوروبا" تفتقرُ لأي ملفٍّ عامٍّ واضح، وأن المسؤولين الجنوبَ إفريقيين أكدوا أنهم لا يعرفون عنها شيئًا قبل وصولِ الرحلات.
اتصلت الشركةُ بالفلسطينيين عارضةً إخراجَهم من غزة مقابلَ 1600 دولارٍ للفرد، تُدفَع مسبقًا عبر حساباتِ عملاتٍ مشفّرة دون الكشفِ عن الوجهةِ النهائية.
_2844_114656.jpg)
رحلة تجاه الموت
روى الدكتورُ أحمد شحادة ذو الـ37 عامًا، الذي يعملُ مع وكالةٍ تابعةٍ للأمم المتحدة منذ 2014، لصحيفةِ "نيويورك تايمز" تفاصيلَ رحلته المرعبة مع عائلته المكوّنة من أربعةِ أفراد، إذ إنّه في البداية اعتقد أن العرضَ عمليةُ احتيال، لكن بعد أن علم بنجاحِ زميلٍ له في الخروج عبر الطريقِ نفسه، قرّر المخاطرةَ ودفعَ 6400 دولار في أكتوبر الماضي.
بعد منتصفِ ليلِ 26 أكتوبر بقليل، جاءت المكالمةُ الحاسمة تطالبُه بالوصول إلى خان يونس خلال أربعِ ساعاتٍ فقط.
هناك، صعدوا حافلةً وأُمروا بإغلاقِ الستائر وعدمِ استخدامِ الهواتف المحمولة قبل دخولِ رفح الفلسطينية، والأمرُ الأغرب أن ممثلي الشركة طلبوا منهم إخبارَ أي جهةٍ تسألهم بأنهم جزءٌ من عمليةِ إجلاءٍ لإحدى السفاراتِ الأوروبية، حسب الصحيفة الإسرائيلية.
وصف شحادةُ لحظاتِ الرعب قائلًا إنّه تساءل مع عائلته: "ماذا لو لم يكن لديهم اتصالٌ بالجيش الإسرائيلي وبدأوا بإطلاقِ النار على الحافلات؟".
وصلوا إلى معبرِ كرم أبو سالم حيث أجبرهم الجنودُ الإسرائيليون على تركِ جميعِ متعلّقاتهم، ثم مرّوا بعدةِ نقاطِ تفتيشٍ أمنية قبل نقلِهم بحافلاتٍ جديدةٍ إلى مطارِ رامون في جنوب إسرائيل.
لم يُخبَروا بوجهتهم إلا في منتصفِ الرحلةِ الجوية، حين اكتشفوا أنهم متجهون إلى نيروبي في كينيا، ومنها إلى جنوبِ أفريقيا.
كان لؤي أبو سيف على متنِ الرحلة التي وصلت الأسبوع الماضي، والتي احتُجز ركابُها داخل الطائرة لأكثرَ من 10 ساعاتٍ أثناء فرزِ أوضاعهم.
ووصف أبو سيف للصحيفةِ الأمريكية كيف تعمّدت الشركة إخفاءَ كلِّ المعلومات عنهم حول وجهتهم النهائية، قائلًا: "لم نكن نعلم أصلًا إلى أي بلدٍ سنذهب".
التحذير من عمليات التطهير العرقي
أصدرت وزارةُ الخارجيةِ الجنوبُ إفريقية بيانًا رسميًا حذّرت فيه مما وصفته بـ"مشروعِ تطهيرٍ عرقيٍّ للفلسطينيين في غزة".
ووفقًا لـ"نيويورك تايمز"، اتهم وزيرُ الخارجية رونالد لامولا إسرائيلَ بأنها وراء "أجندةٍ واضحةٍ لطردِ الفلسطينيين من غزة والضفةِ الغربية".
من جانبه، قال رئيسُ جنوبِ إفريقيا سيريل رامافوزا إنّ الأمر يبدو وكأنهم "يُطردون بالقوة"، مؤكدًا أن بلاده لديها واجبٌ أخلاقيٌّ لقبولِ الفلسطينيين باعتبارهم "حالةً مختلفةً وخاصةً لشعبٍ يُدعم كدولة".
وقد مُنح الفلسطينيون إعفاءً من التأشيرة لمدة 90 يومًا، وهو إجراءٌ تمنحه جنوبُ إفريقيا للفلسطينيين عادة.
حياة غير أدمية
ذكرت "نيويورك تايمز" أن شحادة استلَم رسالةً أخيرة من "المجد" تُعلمه بحجزِ سكنٍ مؤقتٍ لعائلته، لكن لمدةِ أسبوعٍ فقط بدلًا من الشهر الذي وعدت به الشركة.
وعلى الرغم من نشرِ الشركةِ بيانًا على موقعها الإلكتروني يوم الاثنين تؤكد فيه استمرارَ عملها وتحذّر من حساباتٍ وهمية تنتحلُ اسمها، إلا أن جميعَ محاولاتِ اتصالِ الصحيفةِ الأمريكية بالأرقامِ الموجودة على الموقع باءت بالفشل.
وبعيدًا عن كلِّ ما مرّ به، يقول شحادة إن أكثرَ ما يؤثر فيه هو مشاهدةُ ابنته الصغيرة ذاتِ الأعوامِ الأربعة وهي تكتشفُ الحياةَ الطبيعية للمرةِ الأولى بعد عمرٍ قضته كله تحت القصف، فهي تنبهرُ بأبسطِ الأشياء، مثل أن تذهبَ لشراء الطعام من محلٍّ، أو أن تشحنَ هاتفها من الكهرباء، وهي أمورٌ لم تعرفْها إلا من خلالِ مقاطعِ الفيديو التي كانت تشاهدها.
يختم شحادةُ حديثه: "قبل أيامٍ قالت لي: بابا، أصبحنا نعيش مثل الناس اللي في اليوتيوب".
